إبراهيم سنجاب
التاريخ لا يكتب الصمت، ولا تفاصيل للصمت حتى تحتفظ بها الصفحات، والذين يكتفون بمشاهدة التاريخ، كمن يضعون أصابعهم في آذانهم، مكانهم خارج حدود الدراما، لا يتذكرهم التاريخ، فلا دور ولا تأثير ولا وجود.
مما يقال في تأصيل كلمة تاريخ من بين أقوال كثيرة، أنها مأخوذة عن عرب اليمن، ويستدلون على صدق هذا الاحتمال بما قاله الحافظ السخاوي: إنَّ أوَّل من أرَّخ هو يعلى بن أميَّة، ذلك أنَّه كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كتابًا مؤرَّخًا من اليمن فاستحسَنَه.
وما بين الخروج من التاريخ ومحاولة الدخول فيه، تراوحت الأحداث في المنطقة العربية بين قوى خرجت من التاريخ، وثانية تسعى لتعديل مساره، وثالثة تحاول إعادة صياغته، وأخرى لم تكن محسوبة تسعى للظهور بالسلاح أو بالسياسة أو بكليهما.
أما على المستوى الإقليمي، فالمحاولة جادة ورياحها عاتية لتغيير أصول الحضارة في المنطقة العربية، وصياغة أوضاع مضادة ومتناقضة لما كان مستقرا على مدى آلاف السنين، وذلك لتحقيق الهيمنة الإقليمية من خلال توسيع مناطق النفوذ.
ومن دولة الرسول والخلفاء في المدينة المنورة إلى دمشق ثم بغداد وإلى القاهرة، كان انتقال مركز القرار من عاصمة عربية إلى أخرى منطقيا وفقا لمعايير تداول القوة والضعف. ولكن تحت وهم الثراء وفى ظروف تاريخية استثنائية، حاولت عواصم خليجية اختطاف الدور رغم افتقادها لمؤهلات الدولة القائد، ورغم السقوط في معارك متتالية.
وعقب احتلال بغداد وانشغال دمشق وإشغال القاهرة، حدث فعلا أن انتقل مركز القرار إلى الخليج لتتصارع عليه الدوحة ثم لتسعى أبو ظبي لاقتسامه مع الرياض الأكبر والأكثر ثراء.
(نظريا) ليست هناك مشكلة، فكلها عواصم عربية والبازغة منها أولى بالقيادة، ولكن هذا الافتراض في حقيقته ليس واقعيا، فعواصم الخليج تستمد قوتها من أعداء الإقليم والطامعين فيه، وهى ليست مصر عبد الناصر العربية القومية، ولا القاهرة في مواجهة التتار والمغول والصليبين، وليست عراق صدام حسين ولا بغداد التي خرجت من الإقليم ولم تعد، كما أنها ليست دمشق التاريخية التي أوهنوها بالمال السلاح والجماعات الإرهابية.
في الماضي القريب كانت عواصم الخليج مجرد محميات أمريكية أو إنجليزية، وكانت بقية العواصم العربية تغض الطرف بحيث ظلت قضية الجميع المركزية (فلسطين) حية في نفوسهم يستهلكون شعوبهم بها، بقليل من المال للفلسطينيين وكثير من الكلام عن تحرير القدس وفك أسر المسجد الأقصى.
أما في الحاضر المشاهد، فقد قفزت العواصم (القائدة) نحو تبنى الاستراتيجية المضادة، ومحاولة اقتسام الإقليم مع إسرائيل ودفعه نحو القبول بالواقع الجديد بدمج تل أبيب في مشاكل المنطقة، بهدف ضرب فكرة التعاون العربي في جذورها كأحد الدروس المستخلصة من حرب أكتوبر 73.
صنعاء آخر الحصون
ما الذي في اليمن ليستدعي إنفاق 250 مليون دولار يوميا على حرب عبثية لا طائل من ورائها إلا إعادته لزمن “النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود”؟
اقتتال في الداخل بمؤامرة من الخارج، وحرب من الخارج بمرتزقة من الداخل، وخمس سنوات من الجحيم والموت والجوع والمرض والجرائم ضد الإنسانية بلا رحمة. ما الذي في اليمن لحرمانه من مطاراته وموانئه ومصانعه ومدارسه وحدائقه؟!
هل إيران؟ هل الشرعية؟ هل انفصال الجنوب؟ هل حصار الشمال؟ هل دستور الأقاليم الستة؟ هل الثورة؟ هل أبناء وأحفاد على صالح؟ هل الإخوان؟ لو كان ذلك ما كان الأمر يستحق خمس سنوات من العهر السياسي والتضليل الإعلامي والعبث بالسلاح، فكل ما سبق – لمن يعرفون اليمن واليمنيين- ينتهي بجلسة لو أتيحت لهم فرصة الجلوس معا، أو بمعركة لو أتيحت لهم فرصة الاقتتال بشرف دون وكالة من الخارج.
الحقيقة التي تغيبها الفضائيات أن آخر الحصون أمام دمج إسرائيل وتطبيع وجودها في إقليم البحر الأحمر يقع في اليمن، ويمتد من عدن حتى الحديدة، وفقا لأحدث إصدارات نظريات الأمن القومي الإسرائيلي. ويكفى نظرة واحدة لخريطة القواعد الأمريكية في منطقة الخليج 2020, وإعلان واشنطن مؤخرا عن إرسال آلاف الجنود إلى السعودية لأول مرة – بعد 16 عاما – من حرب تحرير الكويت، والإعلان عن قوة البحر الأحمر السعودية – الإماراتية، والذى سبقه الاعتراف بالمجلس الانتقالي في الجنوب اليمنى ودمجه في الشرعية الافتراضية غصبا، وتبجح إسرائيل بالإعلان عن مشاركتها في الحرب على اليمن.
كل ذلك تم على الأرض فعلا ولم يبق لإحداث التغيير الإستراتيجي إلا السيطرة على – الخط التهامي – بوضع اليد على ميناء الحديدة بعد عدن والمخا، وهو ما يعنى الاستيلاء على 500 كم من السواحل اليمنية على البحر الأحمر، لتكتمل اللوحة نهائيا في مواجهة ميناء عصب الإريتري على الشاطئ الآخر, حيث منتخب القواعد العسكرية الأجنبية من كل قارات العالم , ولتنتهي مقاومة صنعاء ,آخر الحصون العربية على البحر الأحمر, أما ما عدا ذلك فهو مجرد تفاصيل جرى التعامل معها خليجيا بالمال وبالسلاح وبلا رحمة, حتى يكاد اليمن أن يفقد خريطته, ولتحقق إسرائيل غايتها التي حددتها وثيقة كيدار (السلام بالسلام والتطبيع بالتطبيع والاعتراف بالاعتراف) .