محمد ناجي أحمد
يحتذي الشعراء مدائحهم في الرسول محمد (ص) بتعالق وترابط وتناص لقصائد تنهل من ضوء النبوة شعريتها. وتبقى بردة البوصيري وأحمد شوقي جناحين يطير بهما البردوني في قصيدته “بشرى النبوة” بتميز يمتص ما سبق، ويتزحزح جماليا عنهما بشعريته المحلقة في فضاء النبوة المحمدية.
فالنبوة بشرى للبشرية جاءت من الغيب، كطائر حط على “فم الغار”.
وفي ذلك “الكهف” في “حراء” وذلك “الغار “الذي مثل له وصاحبه في هجرة الدين من مجتمع الأوثان إلى بناء مجتمع التحرر من الطواغيت، فكان الله ثالثهما .أحدهما للاعتزال والتأمل، والثاني إصرار على مواجهة التحديات والأخطار والتبعات الجمة – كان ميلاد النبوة فتحا ونصرا مبينا، حط ركابه في المدينة المنورة، وكان نصر الله الذي يجيء من أصقاع الأرض ليدخل الناس في هذا النور أفواجا.
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحيا، وأفضت إلى الدنيا بأسرار.
هي النبوة من فكت لغز الحياة، فقدمت تعريفا موحى إليها، ومنزلا في الكتاب بقوله تعالى “وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو” تعريف الحياة الفانية بأنها “لعب ولهو” ودار اختبار وعمل، ومواجهة ضد الاستكبار والاستئثار في الأرض، وادعاء الألوهية، واستعباد الناس.
الحياة لعب بالمعنى الإبداعي، واستمتاع بنعمها، الأصل في الحياة هو الحلال، والحرام هو الهامش الضيق فيها.
والآخرة هي جائزة ونتيجة هذا “اللعب واللهو” إنها الخلود إذا أتقنا فهمنا للتحديات ومواجهتها، وأنجزنا ما علينا في هذه الحياة المتحركة النسبية .
هي (بشرى النبوة) عند الشاعر والناقد الكبير عبد الله البردوني – تطوف كالشذا والهواء الذي تنفسه زكيا في رائحته، مثمرا في استنشاقه حياة العزة “إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين” وهي الإعلان والإعلام في كل ربا وأصقاع الأرض، وهي “ميلاد أنوار” و”نور على نور” والمشكاة المضيئة، والمزيحة للحجب المتراكمة، والمتراكبة، والمعتمة للنفس البشرية.
وفي مواجهة الصمت والخنوع للظلم والإنكار والجحود، وهي أنسام في قلوب المؤمنين بها، التي تحملها “تحت السكينة من دار إلى دار “.
من أيقظت مكة من سباتها “وهزت الفجر إيذانا بإسفار” وظهور دائم، جعلت الفجر يُقبِل من خلف التلال، حاملا في عينيه أسرار عشاق الحقيقة و”أهل الأشواق ” إلى الحق.
هي النبوة المحمدية “فيض الندى في كل رابية ” و”موج في كل سفح” وجدول جار بالحياة، ليتدافع الفجر كزمن يتخلق مع ميلاد النبوة المحمدية، يزف إلى التاريخ والأجيال المتعاقبة كمال النبوة وسطوعها خيرا للبشرية جمعاء.
هي النبوة المحمدية، اكتمال النبوات، من تواردت عنها “الإيماءات والآيات” فشب فيها محمد بن عبد الله (ص) “متزرا بالحق، ممتشقا للنور والنار” نور الهداية، ونار الإعداد والاستعداد في مواجهة الطغاة والمستكبرين المتجبرين في الأرض.
حاملا في كفه شعلة الحق المنيرة، ليسير خلفها الضامئون إلى طريق الحق، مستمتعين بالطريق، مؤمنين بالوصول إلى “جنة عرضها السموات والأرض” ومبشرا للعالمين بسقوط دولة الباطل وظهور دولة المعذبين والمستضعفين:
“في كفه شعلة تهدي وفي فمه
بشرى وفي عينيه إصرار أقدار
وفي ملامحه وعد وفي دمه
بطولة تتحدى كل جبَّار”
هو الفيض الذي يغتم الطغاة به “واللص يخشى سطوع الكوكب الساري ” وهو الوعي الذي يفيض عن النور، خزيا للظالمين وإسقاطا لصولجانهم، وإشراقا للحق والخير والجمال.
إن نداء الرسول العظيم نداء الحق الذي خلفه “كتائب الجود تنضي كل بتار” التي يشبهها الشاعر البردوني بـ “نار مجنحة تجري وقدامه أفواج إعصار” ليصير الحق ملء الدنيا وما رحبت.
ليعالج الأحقاد التي يصورها الشاعر بقوله:
“وسار والدرب أحقاد مسلخة
كأن في كل شبر ضيغما ضاري”
لهذا اندفع النبي محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم “في دربه المرسوم ” وحيا:
“كالدهر يقذف أخطار بأخطار
فأدبر الظلم يلقى هاهنا أجلا
وهاهنا يتلقى كفّ حفار”
فالظلم مهما احتمى ببطشه وجبروته وصولجان القوة والمال فإنه يصبح هباء منثورا أمام طوفان” كتائب الحق”.
هو النبي “اليتيم أبو الأيتام”، “حامل الملة السمحاء” التي “يرف على جبينها تاج وإعظام وإكبار”، هو الفاتح رحمة لإظهار الدين كله لا طمعا ولا بغيا ولا بطشا “لكن حنانا وتطهيرا للأوزار” فنصره قبر للجور وبناء لزمن العدل وأفكار الحرية، فهو:
“قاتل كل الظلم هاهنا وهنا”
ويستحضر الشاعر “زند النبوة” ليشكو إليه ما حل بأرض الجنوب:
“أرض الجنوب دياري وهي مهد أبي
تئن بين سفَّاح وسمسار”
“فكيف لانت لجلاد الحمى عدن
وكيف ساس حماها غدر فجّار
وقادها زعماء لا يبررهم
فعل وأقوالهم أقوال أبرار
أشباه ناس وخيرات البلاد لهم
ووزنهم لا يساوي ربع دينا”
ببصيرة متنبئة ورائية لما نحن فيه، يصف البردوني حكام العمالة والغدر والخيانة “الآكلون جراح الشعب”:
“يشرون بالذل ألقابا تسترهم
لكنهم يسترون العار بالعار
تحسهم في يد المستعمرين كما
تحس مسبحة في كف سحار”
هذا هو حال العملاء وهم في ارتهان للغرب، والكيان السعودي ومشيخات الخليج.
لكن الشاعر المؤمن بالشعب اليمني وغضبه يتنبأ بزوال هذه الأحوال
“ويل وويل لأعداء البلاد إذا
ضج السكون وهبت غضبة الثار”
فاضحا للمنافقين:
“والناس شرٌّ وأخيار وشرهم
منافق يتزيَّا زيَّ أخيار”
فالشعوب إذا انفجر حقدها تتحول إلى براكين تأكل كل خوان وغدار.
وبعد أن يعدد الشاعر صور الذل والهوان والخيانات والغدر والتبعية للمستعمر، يستحضر في قصيدته النبوة المحمدية كطوق نجاة من هذا الوضع المزري والظلم المتراكم والمتبجح بعمالته:
“يا خاتم الرسل هذا يومك انبعثت
ذكراه كالفجر في أحضان أنهار”
مستغيثا بصاحب “المبدأ الأعلى” و “رسالة الحق”، و”أعلى المبادئ” لدحض من كانت مبادؤهم:
“مباديء الذئب في إقدامه الضاري”
وباستفهام ممزوج بالحزن والألم والشوق والثورة يقول البردوني:
“ماذا أغنيك يا “طه” وفي نغمي
دمع وفي خاطري أحقاد ثوار ؟
تململت كبرياء الجرح فانتزفت
حقدي على الجور من أغوار أغوار”
من “أحمد النور” يستمد الشاعر ثورته للانعتاق من الجحيم.
فثورة الشعر والإنشاد لدى البردوني امتداد لثورة شعر “حسان بن ثابت” المستمد هجاءه للطغاة من قبس النبوة المحمدية و”روح القدس”.
فالشاعر بن الأنصار الذين قذفوا جيش الطغاة بجيش بايع النبي على أن يفدوه بأنفسهم وما يملكون:
“تظافرت في الفدى حوليك أنفسهم
كأنهن قلاع خلف أسوار”
مختتما قصيدته بالتأكيد على أن اليمانيين هم امتداد ثوري، يحلِّقون عاليا بأرواح الأنصار، وبأنهم أحفاد الثائر “عمار بن ياسر” الذي قتلته الفئة الباغية من الملأ القرشي:
“نحن اليمانين يا “طه “تطير بنا
إلى روابي العلا أرواح أنصار
إذا تذكرت “عمارا “وسيرته
فافخر بنا إننا أحفاد “عمار”
هي ثورة الشعر، وشعر الثورة، ثورة عمار بن ياسر، صلاة الروح التي تستمد وهجها وحركتها وإيمانها الثوري من ألحان النبوة المحمدية.